“رحمة” … إلى رحمة الله: انتحار الأخلاق (قصة واقعية)
في بيئة قروية بسيطة.. ترعرعت الطفلة رحمة بمعية ثلاتة اخوة ذكور وأخت تصغرها في حضن والديها .. وما كادت تسفر عن أنوثتها الغضة حتى زوجت من زوجها على الرغم من فارق السن الكبير بينهما ، حتى ان ابنته من زواج سابق كانت أكبر منها سنا ..
انتقلت رحمة من بيئة فقيرة إلى أخرى لا تقل عنها فقرا وبؤسا..
وبتسليم القرويات ورضاهن شاركت زوجها كحدح الحياة في بيئة اجتماعية عصيبة نهشت زراعة القنب الهندي فيها قيم التضامن والتساند والقناعة والرحمة والامانة ..
رزقت رحمة بثلاثة أبناء، ولدين بينهما ستة أعوام، وفتاة جاءت بعد الولد الثاني بأربعة أعوام .. في سنة 2015 فجعت رحمة في زوجها الذي تركها وحيدة مع ثلاثة أطفال أكبرهم لا يجاوز 11سنة والصغرى رضيعة في عامها الأول …
وفي زحمة حيرتها وقلة حيلتها امام وضعها الجديد ،كان عليها أن تجابه تنمر واستئساد عائلة زوجها التي لم تترك سبيلا إلا سلكته لتذيقها مرارة العيش وتمنعها الشعور بالأمن والراحة…
استولوا على أراضي زوجها اولا ..ثم تفننوا في أساليب اذايتها وتخويفها وارعابها لدفعها إلى اخلاء بيتها المتواضع الذي تقيم فيه .. وبالفعل وبعد مقاومة طويلة -ترسبت آثارها في نفسها – اضطرت رحمة لاخلاء بيت زوجها ..
لكن الله تعالى سخر لرحمة ويتامها محسنين فضلاء وهبوا لها أرضا وبنوا لها بيتا في ناحية منعزلة من القرية بعيدا من بيتها القديم وعائلة زوجها ..
ظنت رحمة المسكينة أنها ستجد الراحة في بيتها الجديد وانها ودعت احزانها وهمومها لتتفرغ لرسالتها التي كرست لها حياتها ..تربية وتعليم أبنائها.. ولم تكن تدري أنها ستعيش ملحمة أخرى من المعاناة …
تفتقت عبقرية عائلة الزوج عن أساليب شيطانية لايذاء الارملة المسكينة.. في جنح الظلام يرشقون البيت بالحجارة او يوهمونها بمحاولات كسر الباب والدخول عليها ليلا ..كانوا يتصيدون لذلك الأوقات التي لا يتواجد فيها اخوتها ،والليالي التي يكون فيها ابنها الأكبر غير متواجد لاقامته في قسم الداخلي بالمدينة لمتابعة دراسته .الثانوية..
منذ سنوات كانت شكوى الارملة المكلومة من التحرشات بها تزداد يوما بعد يوم، و ضغط مخاوفها على نفسها واولادها يحفر في نفسها جروحا واخاديد عميقة .. لكن لا أحد امتد يده من العشيرة لحمايتها..
تحولت الضغوط والمخاوف عند رحمة مع الايام إلى نوبات عصبية هستيرية وتشنجات واغماءات والأم في الرأس وأمراض غير محددة المصدر …حيث اكدت الفحوص الطبية المتكررة التي أجرتهاباشراف من الجمعية ومتابعة من اختها أنها بالفعل اضطرابات غير عضوية…
عاشت السيدة رحمة ثلاث سنوات من المعاناة المريرة مع وضعها الصحي/ النفسي ، الذي كان يتحول شيئا فشيئا إلى حالة من الاكتئاب الحاد ..
وقد بدل اختها واخويها و المشرفة الاجتماعية لجمعيتنا مساعي و جهودا جبارة لانتشال رحمة من وهدتها من خلال الاستماع والاستقبال والمصاحبة … ولفت انتباهها إلى حاجة أبنائها إليها ..
لكن يبدو ان السقطة كانت عنيفة والحفرة عميقة وان حبال الاكتئاب الحاد كانت يوما بعد يوم تلتف حول عنقها لتخنق انفاس الامل والرغبة في الحياة..عندها …
وفي ليلة السبت 4ابريل 2021 وبعد جلسة حميمية هادئة مع أخوتها وأولادها..هجع الجميع ..وكانت رحمة في فراشها إلى جوار امها وأطفالها ..تقاوم وتكابد حبال الاكتئاب الحاد ..التي تصر ان تتحول إلى حبل مشنقة.. و تلتف حول عنقها .. لتضع حدا لحياة مليئة بالمعاناة …
اسلمت رحمة أنفاسها..مخلفة صدمة لا يعلم إلا الله حجمها على امها العجوز و ابنها ذي 11عاما الذي كان اول من أنتبه لوضعها المخيف وفك الحبال من حول رقبتها ، وايضا على ابنها ذي 17 سنة الذي انضافت هذه الصدمة إلى صدمات سابقة قوية لعل أخفها تعرضه لعنف شديد من عائلة ابيه و لا شك أن أشدها هو تعرضه وهو في سن الخامسة لتهديد فعلي بالذبح من أبيه في نوبة غضب جاهلية.
ماتت رحمة مخلفة ثلاثة اطفال في عمر الزهور بنذوب نفسية غائرة ..لا احد يدري هل سيتمكنون من تجاوزها ، ماتت رحمة مخلفة فتاة كالوردة جمالا وصبى وحياة تتهافت عليها القلوب لفصلها عن اخويها..
ماتت رحمة مخلفة مراهقا مصدوما ..ابكمته الصدمة فلزم الصمت والتحديق في الفراغ.. لا باكل ولا يتفاعل في زيارتنا للاسرة من أجل المواساة والتعزية وتدارس مستقبل الأطفال ..وبعد ساعات من التواصل مع العائلة أخبرني الشاب بخبر الكثلة الجاثمة على صدره ..وفي حلقه والتي لا تفارقه ..وعن الليل الذي أصبح بالنسبة إليه معاناة ..وعن الالم المتجدد كل ليلة من خلال كوابيس الرعب التي تملؤه خوفا وتعرقا .
أما الطفل ذي العشر سنوات فلا يدري احد حجم معاناته الداخلية .. من هول الموقف لم يبك أمه بعد .. لعله لايزال يجتر صدمة رؤية امه في حبال الموت .. ولا يصدق كيف فك الحبل بيديه من حول عنقها .. لا يبدو على وجهه شيء من التاثر او الاهتمام بالحديث الدائر حول الحدث ..تلمح خلف ملامحه المتماسكة حزنا خفيا .. نسال الله أن يتولاه بلطفه ..
ماتت رحمة لتعلن موت قيم اكرام اليتيم واسرة اليتيم في بعض بيئاتنا المنتكسة
ماتت بقساوة وقهر ودع بيئة لارحمة فيها ولا ضمير
ماتت رحمة وتركت لنا حملا ثقيلا : حماية أطفالها من التشتت والحرص على أن يعيشوا معا في حضن أسرة تعتني بهم بالفعل ..
كيف لا وقد كانت آخر كلماتها وهي تخاطب مشرفتها على الهاتف : ” اولادي في رقابتكم”
عزالدين الخمسي
الكاتب العام لجمعية العون والاغاثة